40 _ سنة (286هـ): قصَّة السيّدة نرجس اُمّ الإمام المهدي عليه السلام وما جرى عليها من محاولة زواجها إلى أسرها وبيعها ومن ثَمَّ زواجها بالإمام الحسن العسكري عليه السلام يرويها بشر بن سليمان النخّاس إلى محمّد بن بحر الشيباني في مقابر قريش: روى الصدوق رحمه الله عن محمّد بن علي بن حاتم النوفلي، قال: حدَّثنا أبو العبّاس أحمد بن عيسى الوشّاء البغدادي، قال: حدَّثنا أحمد بن طاهر القمّي، قال: حدَّثنا أبو الحسين محمّد بن بحر الشيباني، قال: وردت كربلا سنة ستّ وثمانين ومائتين، قال: وزرت قبر غريب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثمّ انكفأت إلى مدينة السلام متوجّهاً إلى مقابر قريش في وقت قد تضرَّمت الهواجر وتوقَّدت السمائم، فلمَّا وصلت منها إلى مشهد الكاظم عليه السلام واستنشقت نسيم تربته المغمورة من الرحمة، المحفوفة بحدائق الغفران، أكببت عليها بعبرات متقاطرة، وزفرات متتابعة، وقد حجب الدمع طرفي عن النظر، فلمَّا رقأت العبرة وانقطع النحيب فتحت بصري فإذا أنا بشيخ قد انحنى صلبه، وتقوَّس منكباه، وثفنت جبهته وراحتاه، وهو يقول لآخر معه عند القبر: يا ابن أخي، لقد نال عمّك شرفاً بما حمله السيّدان من غوامض الغيوب وشرائف العلوم التي لم يحمل مثلها إلاَّ سلمان، وقد أشرف عمّك على استكمال المدَّة و انقضاء العمر، وليس يجد في أهل الولاية رجلاً يفضي إليه بسرّه، قلت: يا نفس، لا يزال العناء والمشقّة ينالان منك بإتعابي الخفّ والحافر في طلب العلم، وقد قرع سمعي من هذا الشيخ لفظ يدلُّ على علم جسيم وأثر عظيم، فقلت: أيّها الشيخ، ومن السيّدان؟ قال: النجمان المغيَّبان في الثرى بسُرَّ من رأى، فقلت: إنّي أقسم بالموالاة وشرف محلّ هذين السيّدين من الإمامة والوراثة إنّي خاطب علمهما، وطالب آثارهما، وباذل من نفسي الأيمان المؤكَّدة على حفظ أسرارهما، قال: إن كنت صادقاً فيما تقول فأحضر ما صحبك من الآثار عن نقلة أخبارهم، فلمَّا فتَّش الكتب وتصفَّح الروايات منها قال: صدقت، أنا بشر بن سليمان النخّاس من ولد أبي أيّوب الأنصاري أحد موالي أبي الحسن وأبي محمّد عليهما السلام وجارهما بسُرَّ من رأى، قلت: فأكرم أخاك ببعض ما شاهدت من آثارهما، قال: كان مولانا أبو الحسن علي بن محمّد العسكري عليهما السلام فقَّهني في أمر الرقيق، فكنت لا أبتاع ولا أبيع إلاَّ بإذنه، فاجتنبت بذلك موارد الشبهات حتَّى كملت معرفتي فيه فأحسنت الفرق (فيما) بين الحلال والحرام. فبينما أنا ذات ليلة في منزلي بسُرَّ من رآى وقد مضى هوي من الليل إذ قرع الباب قارع فعدوت مسرعاً فإذا أنا بكافور الخادم رسول مولانا أبي الحسن علي بن محمّد عليهما السلام يدعوني إليه، فلبست ثيابي ودخلت عليه فرأيته يحدّث ابنه أبا محمّد وأخته حكيمة من وراء الستر، فلمَّا جلست قال: (يا بشر، إنَّك من ولد الأنصار، وهذه الولاية لم تزل فيكم يرثها خلف عن سلف، فأنتم ثقاتنا أهل البيت، وإنّي مزكّيك ومشرّفك بفضيلة تسبق بها شأو الشيعة في الموالاة بها بسرّ اُطلعك عليه واُنفذك في ابتياع أمَة)، فكتب كتاباً ملصقاً بخطّ رومي ولغة رومية، وطبع عليه بخاتمه، وأخرج شستقة صفراء فيها مائتان وعشرون ديناراً، فقال: (خذها وتوجَّه بها إلى بغداد، واحضر معبر الفرات ضحوة كذا، فإذا وصلت إلى جانبك زواريق السبايا وبرزن الجواري منها فستحدق بهم طوائف المبتاعين من وكلاء قوّاد بني العبّاس وشراذم من فتيان العراق، فإذا رأيت ذلك فأشرف من البعد على المسمّى عمر بن يزيد النخّاس عامّة نهارك إلى أن يبرز للمبتاعين جارية صفتها كذا وكذا، لابسة حريرتين صفيقتين، تمتنع من السفور ولمس المعترض، والانقياد لمن يحاول لمسها ويشغل نظره بتأمّل مكاشفها من وراء الستر الرقيق فيضربها النخّاس فتصرخ صرخة رومية، فاعلم أنَّها تقول: وا هتك ستراه، فيقول بعض المبتاعين: عليَّ بثلاثمائة دينار، فقد زادني العفاف فيها رغبة، فتقول بالعربية: لو برزت في زيّ سليمان وعلى مثل سرير ملكه ما بدت لي فيك رغبة فأشفق على مالك، فيقول النخّاس: فما الحيلة ولا بدَّ من بيعك، فتقول الجارية: وما العجلة؟ ولا بدَّ من اختيار مبتاع يسكن قلبي (إليه و)إلي أمانته وديانته، فعند ذلك قم إلى عمر بن يزيد النخّاس وقل له: إنَّ معي كتاباً ملصقاً لبعض الأشراف كتبه بلغة رومية وخطّ رومي، ووصف فيه كرمه ووفاه ونبله وسخاءه، فناولها لتتأمَّل منه أخلاق صاحبه فإن مالت إليه ورضيته، فأنا وكيله في ابتياعها منك). قال بشر بن سليمان النخّاس: فامتثلت جميع ما حدَّه لي مولاي أبو الحسن عليه السلام في أمر الجارية، فلمَّا نظرت في الكتاب بكت بكاءً شديداً، وقالت لعمر بن يزيد النخّاس: بعني من صاحب هذا الكتاب، وحلفت بالمحرجة المغلّظة إنَّه متى امتنع من بيعها منه قتلت نفسها، فما زلت أشاحّه في ثمنها حتَّى استقرَّ الأمر فيه على مقدار ما كان أصحبنيه مولاي عليه السلام من الدنانير في الشستقة الصفراء، فاستوفاه منّي وتسلَّمت منه الجارية ضاحكة مستبشرة، وانصرفت بها إلى حجرتي التي كنت آوي إليها ببغداد فما أخذها القرار حتَّى أخرجت كتاب مولاها عليه السلام من جيبها وهي تلثمه وتضعه على خدّها وتطبقه على جفنها وتمسحه على بدنها، فقلت تعجباً منها: أتلثمين كتاباً ولا تعرفين صاحبه؟ قالت: أيّها العاجز الضعيف المعرفة بمحلّ أولاد الأنبياء أعرني سمعك وفرّغ لي قلبك، أنا مليكة بنت يشوعا بن قيصر ملك الروم، واُمّي من ولد الحواريين تنسب إلى وصيّ المسيح شمعون، اُنبئك العجب العجيب، إنَّ جدّي قيصر أراد أن يزوّجني من ابن أخيه وأنا من بنات ثلاث عشرة سنة، فجمع في قصره من نسل الحواريين ومن القسيسين والرهبان ثلاثمائة رجل، ومن ذوي الأخطار سبعمائة رجل، وجمع من أمراء الأجناد وقوّاد العساكر ونقباء الجيوش وملوك العشائر أربعة آلاف، وأبرز من بهو ملكه عرشاً مسوغاً من أصناف الجواهر إلى صحن القصر، فرفعه فوق أربعين مرقاة، فلمَّا صعد ابن أخيه وأحدقت به الصلبان وقامت الأساقفة عكفاً ونشرت أسفار الإنجيل تسافلت الصلبان من الأعالي فلصقت بالأرض، وتقوَّضت الأعمدة فانهارت إلى القرار، وخرَّ الصاعد من العرش مغشيّاً عليه، فتغيَّرت ألوان الأساقفة، وارتعدت فرائصهم، فقال كبيرهم لجدّي: أيّها الملك أعفنا من ملاقاة هذه النحوس الدالّة على زوال هذا الدين المسيحي والمذهب الملكاني، فتطيَّر جدّي من ذلك تطيّراً شديداً، وقال للأساقفة: أقيموا هذه الأعمدة، وارفعوا الصلبان، واحضروا أخا هذا المدبر العاثر المنكوس جدّه لاُزوّج منه هذه الصبية فيدفع نحوسه عنكم بسعوده، فلمَّا فعلوا ذلك حدث على الثاني ما حدث على الأوّل، وتفرَّق الناس وقام جدّي قيصر مغتمّاً ودخل قصره وأرخيت الستور. فأريت في تلك الليلة كأنَّ المسيح والشمعون وعدَّة من الحواريين قد اجتمعوا في قصر جدّي ونصبوا فيه منبراً يباري السماء علوّاً وارتفاعاً في الموضع الذي كان جدّي نصب فيه عرشه، فدخل عليهم محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم مع فتية وعدَّة من بنيه، فيقوم إليه المسيح فيعتنقه فيقول: يا روح الله، إنّي جئتك خاطباً من وصيّك شمعون فتاته مليكة لابني هذا، وأومأ بيده إلى أبي محمّد صاحب هذا الكتاب، فنظر المسيح إلى شمعون فقال له: قد أتاك الشرف، فصل رحمك برحم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: قد فعلت، فصعد ذلك المنبر وخطب محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وزوَّجني وشهد المسيح عليه السلام وشهد بنوا محمّدصلى الله عليه وآله وسلم والحواريون، فلمَّا استيقظت من نومي أشفقت أن أقصَّ هذه الرؤيا على أبي وجدّي مخافة القتل، فكنت أسرّها في نفسي ولا أبديها لهم، وضرب صدري بمحبَّة أبي محمّد حتَّى امتنعت من الطعام والشراب وضعفت نفسي ودقَّ شخصي ومرضت مرضاً شديداً، فما بقي من مدائن الروم طبيب إلاَّ أحضره جدّي وسأله عن دوائي، فلمَّا برح به اليأس قال: يا قرَّة عيني، فهل تخطر ببالك شهوة فاُزوّدكها في هذه الدنيا؟ فقلت: يا جدّي، أرى أبواب الفرج عليَّ مغلقة فلو كشفت العذاب عمَّن في سجنك من اُسارى المسلمين وفككت عنهم الأغلال وتصدَّقت عليهم ومننتهم بالخلاص لرجوت أن يهب المسيح واُمّه لي عافية وشفاء، فلمَّا فعل ذلك جدّي تجلَّدت في إظهار الصحَّة في بدني وتناولت يسيراً من الطعام، فسرَّ بذلك جدّي وأقبل على إكرام الاُسارى وإعزازهم، فرأيت أيضاً بعد أربع ليال كأنَّ سيّدة النساء قد زارتني ومعها مريم بنت عمران وألف وصيفة من وصائف الجنان، فتقول لي مريم: هذه سيّدة النساء اُم زوجك أبي محمّد عليه السلام، فأتعلَّق بها وأبكي وأشكو إليها امتناع أبي محمّد من زيارتي، فقالت لي سيّدة النساء عليها السلام: إنَّ ابني أبا محمّد لا يزورك وأنت مشركة بالله وعلى مذهب النصارى، وهذه أختي مريم تبرأ إلى تعالى من دينك، فإن ملت إلى رضا الله عز وجل ورضا المسيح ومريم عنك وزيارة أبي محمد أيّاك فتقولي: أشهد أن لا إله إلاَّ الله وأشهد أنَّ _ أبي _ محمّداً رسول الله، فلمَّا تكلَّمت بهذه الكلمة ضمَّتني سيّدة النساء إلى صدرها فطيَّبت لي نفسي، وقالت: الآن توقَّعي زيارة أبي محمّد إيّاك فإنّي منفذه إليك، فانتبهت وأنا أقول: وا شوقاه إلى لقاء أبي محمّد، فلمَّا كانت الليلة القابلة جاءني أبو محمّد عليه السلام في منامي فرأيته كأنّي أقول له: جفوتني يا حبيبي بعد أن شغلت قلبي بجوامع حبّك، قال: ما كان تأخيري عنك إلاَّ لشركك، وإذ قد أسلمت فإنّي زائرك في كلّ ليلة إلى أن يجمع الله شملنا في العيان، فما قطع عنّي زيارته بعد ذلك إلى هذه الغاية. قال بشر: فقلت لها: وكيف وقعت في الأسر؟ فقالت: أخبرني أبو محمّد ليلة من الليالي أنَّ جدّك سيسرّب جيوشاً إلى قتال المسلمين يوم كذا، ثمّ يتبعهم فعليك باللحاق بهم متنكّرة في زيّ الخدم مع عدَّة من الوصائف من طريق كذا، ففعلت فوقعت علينا طلائع المسلمين حتَّى كان من أمري ما رأيت وما شاهدت، وما شعر أحد بأنّي ابنة ملك الروم إلى هذه الغاية سواك، وذلك باطلاعي إيّاك عليه، ولقد سألني الشيخ الذي وقعت إليه في سهم الغنيمة عن اسمي فأنكرته وقلت: نرجس، فقال: اسم الجواري، فقلت: العجب إنَّك رومية ولسانك عربي؟ قالت: بلغ من ولوع جدّي وحمله إيّاي على تعلّم الآداب أن أوعز إلى امرأة ترجمان له في الاختلاف إليَّ، فكانت تقصدني صباحاً ومساءً وتفيدني العربية حتَّى استمرَّ عليها لساني واستقام. قال بشر: فلمَّا انكفأت بها إلى سُرَّ من رأى دخلت على مولانا أبي الحسن العسكري عليه السلام فقال لها: (كيف أراك الله عزّ الإسلام وذلّ النصرانية، وشرف أهل بيت محمّد صلى الله عليه وآله وسلم؟)، قالت: كيف أصف لك يا ابن رسول الله ما أنت أعلم به منّي؟ قال: (فإنّي اُريد أن اُكرمك، فأيّما أحبُّ إليك عشرة آلاف درهم، أم بشرى لك فيها شرف الأبد؟)، قالت: بل البشرى، قال عليه السلام: (فأبشري بولد يملك الدنيا شرقاً وغرباً ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً)، قالت: ممَّن؟ قال عليه السلام: (ممَّن خطبك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم له من ليلة كذا من شهر كذا من سنة كذا بالرومية)، قالت: من المسيح ووصيّه؟ قال: (فممَّن زوَّجك المسيح ووصيّه)، قالت: من ابنك أبي محمّد، قال: (فهل تعرفينه؟)، قالت: وهل خلوت ليلة من زيارته إيّاي منذ الليلة التي أسلمت فيها على يد سيّدة النساء اُمّه. فقال أبو الحسن عليه السلام: (يا كافور، ادع لي أختي حكيمة)، فلمَّا دخلت عليه قال عليه السلام لها: (هاهيه)، فاعتنقتها طويلاً وسرَّت بها كثيراً، فقال لها مولانا: (يا بنت رسول الله، أخرجيها إلى منزلك وعلّميها الفرائض والسنن فإنَّها زوجة أبي محمّد واُمّ القائم عليه السلام)(1). ورواه الطوسي رحمه الله عن جماعة، عن أبي المفضَّل الشيباني، عن أبي الحسين محمّد بن بحر بن سهل الشيباني الرهني، عن بشر بن سليمان النخّاس(2).